فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)}.
وهذه الآية فيها فوائد كثيرة، ولنذكرها على وجه الاستقصاء، فنقول أما تعلقها بما قبلها فلوجوه أحدها: أنه تعالى لما قال: {وَذَكَرَ} [الذاريات: 55] يعني أقصى غاية التذكير وهو أن الخلق ليس إلا للعبادة، فالمقصود من إيجاد الإنسان العبادة فذكرهم به وأعلمهم أن كل ما عداه تضييع للزمان الثاني: هو أنا ذكرنا مرارًا أن شغل الأنبياء منحصر في أمرين عبادة الله وهداية الخلق، فلما قال تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات: 54] بين أن الهداية قد تسقط عند اليأس وعدم المهتدي، وأما العبادة فهي لازمة والخلق المطلق لها وليس الخلق المطلق للهداية، فما أنت بملوم إذا أتيت بالعبادة التي هي أصل إذا تركت الهداية بعد بذل الجهد فيها الثالث: هو أنه لما بيّن حال من قبله من التكذيب، ذكر هذه الآية ليبين سوء صنيعهم حيث تركوا عبادة الله فما كان خلقهم إلا للعبادة، وأما التفسير ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
الملائكة أيضًا من أصناف المكلفين ولم يذكرهم الله مع أن المنفعة الكبرى في إيجاده لهم هي العبادة ولهذا قال: {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] وقال تعالى: {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأعراف: 206] فما الحكمة فيه؟ نقول: الجواب عنه من وجوه الأول: قد ذكرنا في بعض الوجوه أن تعلق الآية بما قبلها بيان قبح ما يفعله الكفرة من ترك ما خلقوا له، وهذا مختص بالجن والإنس لأن الكفر في الجن أكثر، والكافر منهم أكثر من المؤمن لما بينا أن المقصود بيان قبحهم وسوء صنيعهم الثاني: هو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مبعوثًا إلى الجن، فلما قال وذكرهم ما يذكر به وهو كون الخلق للعبادة خص أمته بالذكر أي ذكر الجن والإنس الثالث: أن عباد الأصنام كانوا يقولون بأن الله تعالى عظيم الشأن خلق الملائكة وجعلهم مقربين فهم يعبدون الله وخلقهم لعبادته ونحن لنزول درجتنا لا نصلح لعبادة الله فنعبد الملائكة وهم يعبدون الله، فقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} ولم يذكر الملائكة لأن الأمر فيهم كان مسلمًا بين القوم فذكر المتنازع فيه الرابع: قيل الجن يتناول الملائكة لأن الجن أصله من الاستتار وهم مستترون عن الخلق، وعلى هذا فتقديم الجن لدخول الملائكة فيهم وكونهم أكثر عبادة وأخصلها الخامس: قال بعض الناس كلما ذكر الله الخلق كان فيه التقدير في الجرم والزمان قال تعالى: {خُلِقَ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا في سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الفرقان: 59] وقال تعالى: {خَلَقَ الأرض في يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9] وقال: {خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} [ص: 75] إلى غير ذلك، وما لم يكن ذكره بلفظ الأمر قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقول لَهُ كُن فَيَكُونُ} [ياس: 82] وقال: {قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّى} [الإسراء: 85] وقال تعالى: {أَلاَ لَهُ الخلق والأمر} [الأعراف: 54] والملائكة كالأرواح من عالم الأمر أوجدهم من غير مرور زمان فقوله: {وَمَا خَلَقْتُ} إشارة إلى من هو من عالم الخلق فلا يدخل فيه الملائكة، وهو باطل لقوله تعالى: {خالق كُلّ شَىْء} [غافر: 62] فالملك من عالم الخلق.
المسألة الثانية:
تقديم الجن على الإنس لأية حكمة؟ نقول فيه وجوه الأول: بعضها مر في المسألة الأولى الثاني: هو أن العبادة سرية وجهرية، وللسرية فضل على الجهرية لكن عبادة الجن سرية لا يدخلها الرياء العظيم، وأما عبادة الإنس فيدخلها الرياء فإنه قد يعبد الله لأبناء جنسه، وقد يعبد الله ليستخبر من الجن أو مخافة منهم ولا كذلك الجن.
المسألة الثالثة:
فعل الله تعالى ليس لغرض وإلا لكان بالغرض مستكملًا وهو في نفسه كامل فكيف يفهم لأمر الله الغرض والعلة؟ نقول المعتزلة تمسكوا به، وقالوا أفعال الله تعالى لأغراض وبالغوا في الإنكار على منكري ذلك، ونحن نقول فيه وجوه الأول: أن التعليل لفظي ومعنوي، واللفظي ما يطلق الناظر إليه اللفظ عليه وإن لم يكن له في الحقيقة، مثاله إذا خرج ملك من بلاده ودخل بلاد العدو وكان في قلبه أن يتعب عسكر نفسه لا غير، ففي المعنى المقصود ذلك، وفي اللفظ لا يصح ولو قال هو أنا ما سافرت إلا لابتغاء أجر أو لأستفيد حسنة يقال هذا ليس بشيء ولا يصح عليه، ولو قال قائل في مثل هذه الصورة خرج ليأخذ بلاد العدو وليرهبه لصدق، فالتعليل اللفظي هو جعل المنفعة المعتبرة علة للفعل الذي فيه المنفعة، يقال إتجر للربح، وإن لم يكن في الحقيقة له، إذا عرفت هذا، فنقول الحقائق غير معلومة عند الناس، والمفهوم من النصوص معانيها اللفظية لكن الشيء إذا كان فيه منفعة يصح التعليل بها لفظًا والنزاع في الحقيقة في اللفظ الثاني: هو أن ذلك تقدير كالتمني والترجي في كلام الله تعالى وكأنه يقول العبادة عند الخلق شيء لو كان ذلك من أفعالكم لقلتم إنه لها، كما قلنا في قوله تعالى: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} [طه: 44] أي بحيث يصير تذكرة عندكم مرجوًا وقوله: {عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} [الأعراف: 129] أي يصير إهلاكه عندكم مرجوًا تقولون إنه قرب الثاني: هو أن اللام قد تثبت فيما لا يصح غرضًا كما في الوقت قال تعالى: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس} [الإسراء: 78] وقوله تعالى: {فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] والمراد المقارنة، وكذلك في جميع الصور، وحينئذ يكون معناه قرنت الخلق بالعبادة أي بفرض العبادة أي خلقتهم وفرضت عليهم العبادة، والذي يدل على عدم جواز التعليل الحقيقي هو أن الله تعالى مستغن عن المنافع فلا يكون فعله لمنفعة راجعة إليه ولا إلى غيره، لأن الله تعالى قادر على إيصال المنفعة إلى الغير من غير واسطة العمل فيكون توسط ذلك لا ليكون علة، وإذا لزم القول بأن الله تعالى يفعل فعلًا هو لمتوسط لا لعلة لزمهم المسألة، وأما النصوص فأكثر من أن تعد وهي على أنواع، منها ما يدل على أن الإضلال بفعل الله كقوله تعالى: {يُضِلُّ مَن يَشَاء} [الرعد: 27] وأمثاله ومنها ما يدل على أن الأشياء كلها بخلق الله كقوله تعالى: {خالق كُلّ شَىْء} [الرعد: 16] ومنها الصرايح التي تدل على عدم ذلك، كقوله تعالى: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23] وقوله تعالى: {وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاء} [إبراهيم: 27] {يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1] والاستقصاء مفوض فيه إلى المتكلم الأصولي لا إلى المفسر.
المسألة الرابعة:
قال تعالى: {يا أيها الناس إِنَّا خلقناكم مّن ذَكَرٍ وأنثى وجعلناكم شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لتعارفوا} [الحجرات: 13] وقال: {لِيَعْبُدُونِ} فهل بينها اختلاف؟ نقول ليس كذلك فإن الله تعالى علل جعلهم شعوبًا بالتعارف، وههنا علل خلقهم بالعبادة وقوله هناك {أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم} [الحجرات: 13] دليل على ما ذكره هاهنا وموافق له، لأنه إذا كان أتقى كان أعبد وأخلص عملًا، فيكون المطلوب منه أتم في الوجود فيكون أكرم وأعز، كالشيء الذي منفعته فائدة، وبعض أفراده يكون أنفع في تلك الفائدة، مثاله الماء إذا كان مخلوقًا للتطهير والشرب فالصافي منه أكثر فائدة في تلك المنفعة فيكون أشرف من ماء آخر، فكذلك العبد الذي وجد فيه ما هو المطلوب منه على وجه أبلغ.
المسألة الخامسة:
ما العبادة التي خلق الجن والإنس لها؟ قلنا: التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله، فإن هذين النوعين لم يخل شرع منهما، وأما خصوص العبادات فالشرائع مختلفة فيها بالوضع والهيئة والقلة والكثرة والزمان والمكان والشرائط والأركان، ولما كان التعظيم اللائق بذي الجلال والإكرام لا يعلم عقلًا لزم اتباع الشرائع فيها والأخذ بقول الرسل عليهم السلام فقد أنعم الله على عباده بإرسال الرسل وإيضاح السبل في نوعي العبادة، وقيل إن معناه ليعرفوني، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عن ربه (كنت كنزًا مخفيًا فأردت أن أعرف).
{مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)}.
فيه جواب سؤال وهو أن الخلق للغرض ينبىء عن الحاجة، فقال ما خلقتهم ليطعمون والنفع فيه لهم لا لي، وذلك لأن منفعة العبد في حق السيد أن يكتسب له، إما بتحصيل المال له أو بحفظ المال عليه، وذلك لأن العبد إن كان للكسب فغرض التحصيل فيه ظاهر، وإن كان للشغل فلولا العبد لاحتاج السيد إلى استئجار من يفعل الشغل له فيحتاج إلى إخراج مال، والعبد يحفظ ماله عليه ويغنيه عن الإخراج فهو نوع كسب فقال تعالى: {مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} أي لست كالسادة في طلب العبادة بل هم الرابحون في عبادتهم، وفيه وجه آخر وهو أن يقال هذا تقرير لكونهم مخلوقين للعبادة، وذلك لأن الفعل في العرف لابد له من منفعة، لكن العبيد على قسمين قسم منهم يكون للعظمة والجمال كمماليك الملوك يطعمهم الملك ويسقيهم ويعطيهم الأطراف من البلاد ويؤتيهم الطراف بعد التلاد، والمراد منهم التعظيم والمثول بين يديه، ووضع اليمين على الشمال لديه، وقسم منهم للانتفاع بهم في تحصيل الأرزاق أو لإصلاحها فقال تعالى إني خلقتهم فلابد فيهم من منفعة فليتفكروا في أنفسهم هل هم من قبيل أن يطلب منهم تحصيل رزق وليسوا كذلك، فما أُريد منهم من رزق، أو هل هم ممن يطلب منهم إصلاح قوت كالطباخ والخواني الذي يقرب الطعام وليسوا كذلك فما أُريد أن يطعمون، فإذن هم عبيد من القسم الأول فينبغي أن لا يتركوا التعظيم، وفيه لطائف نذكرها في مسائل:
المسألة الأولى:
ما الفائدة في تكرار الإرادتين، ومن لا يريد من أحد رزقًا لا يريد أن يطعمه؟ نقول هو لما ذكرناه من قبل، وهو أن السيد قد يطلب من العبد الكسب له، وهو طلب الرزق منه، وقد يكون للسيد مال وافر يستغني عن الكسب لكنه يطلب منه قضاء حوائجه بماله من المال وإحضار الطعام بين يديه من ماله، فالسيد قال لا أُريد ذلك ولا هذا.
المسألة الثانية:
لم قدم طلب الرزق على طلب الإطعام؟ نقول ذلك من باب الارتقاء كقول القائل لا أطلب منك الإعانة ولا ممن هو أقوى ولا يعكس، ويقل فلان يكرمه الأمراء بل السلاطين ولا يعكس، فقال هاهنا لا أطلب منكم رزقًا ولا ما هو دون ذلك وهو تقديم طعام بين يدي السيد فإن ذلك أمر كثير الطلب من العباد وإن كان الكسب لا يطلب منهم.
المسألة الثالثة:
لو قال ما أريد منهم أن يرزقون وما أريد منهم من الطعام هل تحصل هذه الفائدة؟ نقول على ما فصل لا وذلك لأن بالتكسب يطلب الغنى لا الفعل فإن اشتغل بشغل ولم يحصل له غنى لا يكون كمن حصل له غنى، وإن لم يشتغل، كالعبد المتكسب إذا ترك الشغل لحاجته ووجد مطلبًا يرضى منه السيد إذا كان شغله التكسب، وأما من يراد منه الفعل لذات الفعل، كالجائع إذا بعث عبده لإحضار الطعام فاشتغل بأخذ المال من مطلب فربما لا يرضى به السيد فالمقصود من الرزق الغنى، فلم يقل بلفظ الفعل والمقصود من الإطعام الفعل نفسه فذكر بلفظ الفعل، ولم يقل وما أريد منهم من طعام هذا مع ما في اللفظين من الفصاحة والجزالة للتنويع.
المسألة الرابعة:
إذا كان المعنى به ما ذكرت، فما فائدة الإطعام وتخصيصه بالذكر مع أن المقصود عدم طلب فعل منهم غير التعظيم؟ نقول لما عمم في المطلب الأول اكتفى بقوله: {مِن رّزْقِ} فإنه يفيد العموم، وأشار إلى التعظيم فذكر الإطعام، وذلك لأن أدنى درجات الأفعال أن تستعين السيد بعبده أو جاريته في تهيئة أمر الطعام، ونفي الأدنى يستتبعه نفي الأعلى بطريق الأولى فصار كأنه تعالى قال: ما أريد منهم من عين ولا عمل.
المسألة الخامسة:
على ما ذكرت لا تنحصر المطالب فيما ذكره، لأن السيد قد يشتري لعبد لا لطلب عمل منه ولا لطلب رزق ولا للتعظيم، بل تشتريه للتجارة والربح فيه، نقول عموم قوله: {مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ} يتناول ذلك فإن من اشترى عبدًا ليتجر فيه فقد طلب منه رزقًا.
المسألة السادسة:
ما أريد في العربية يفيد النفي في الحال، والتخصيص بالذكر يوهم نفي ما عدا المذكور، لكن الله تعالى لا يريد منهم رزقًا لا في الحال ولا في الاستقبال، فلم لم يقل لا أريد منهم من رزق ولا أريد؟ نقول ما للنفي في الحال، ولا للنفي في الاستقبال، فالقائل إذا قال فلان لا يفعل هذا الفعل وهو في الفعل لا يصدق، لكنه إذا ترك مع فراغه من قوله يصدق القائل، ولو قال ما يفعل لما صدق فيما ذكرنا من الصورة، مثاله إذا كان الإنسان في الصلاة وقال قائل إنه ما يصلي فانظر إليه فإذا كان نظر إليه الناظر وقد قطع صلاة نفسه صح أن يقول إنك لا تصلي، ولو قال القائل إنه ما يصلي في تلك الحالة لما صدق، فإذا علمت هذا فكل واحد من اللفظين للنافية فيه خصوص لكن النفي في الحال أولى لأن المراد من الحال الدنيا والاستقبال هو في أمر الآخرة فالدنيا وأمورها كلها حالية فقوله: {مَا أُرِيدُ} أي في هذه الحالة الراهنة التي هي ساعة الدنيا، ومن المعلوم أن العبد بعد موته لا يصلح أن يطلب منه رزق أو عمل فكان قوله: {مَا أُرِيدُ} مفيدًا للنفي العام، ولو قال لا أريد لما أفاد ذلك.
{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)}.
تعليلًا لما تقدم من الأمرين، فقوله: {هو الرزاق} تعليل لعدم طلب الرزق وقوله تعالى: {ذُو القوة} تعليل لعدم طلب العمل، لأن من يطلب رزقًا يكون فقيرًا محتاجًا ومن يطلب عملًا من غيره يكون عاجزًا لا قوة له، فصار كأنه يقول ما أريد منهم من رزق فإني أنا الرزاق ولا عمل فإني قوي وفيه مباحث الأول: قال: {مَا أُرِيدُ} ولم يقل إني رزاق بل قال على الحكاية عن الغائب {إِنَّ الله} فما الحكمة فيه؟ نقول قد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ (إني أنا الرزاق) على ما ذكرت وأما القراءة المشهورة ففيها وجوه الأول: أن يكون المعنى قل يا محمد {إِنَّ الله هُوَ الرزاق} الثاني: أن يكون ذلك من باب الالتفات والرجوع من التكلم عن النفس إلى التكلم عن الغائب، وفيه هاهنا فائدة وهي أن اسم الله يفيد كونه رزاقًا وذلك لأن الإله بمعنى المعبود كما ذكرنا مرارًا وتمسكنا بقوله تعالى: {وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ} [الأعراف: 127] أي معبوديك وإذ كان الله هو المعبود ورزق العبد استعمله من غير الكسب إذ رزقه على السيد وههنا لما قال: {مَا خَلَقْتَ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} فقد بيّن أنه استخلصهم لنفسه وعبادته وكان عليه رزقهم فقال تعالى: {إِنَّ الله هُوَ الرزاق} بلفظ الله الدال على كونه رزاقًا، ولو قال إني أنا الرزاق لحصلت المناسبة التي ذكرت ولكن لا يحصل ما ذكرنا الثالث: أن يكون قل مضمرًا عند قوله تعالى: {مَا أُرِيدُ مِنْهُم} تقديره قل يا محمد {مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ} فيكون بمعنى قوله: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان: 57] ويكون على هذا قوله تعالى: {إِنَّ الله هُوَ الرزاق} من قول النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل القوي، بل قال: {ذُو القوة} وذلك لأن المقصود تقرير ما تقدم من عدم إرادة الرزق وعدم الاستعانة بالغير، ولكن في عدم طلب الرزق لا يكفي كون المستغني بحيث يرزق واحدًا فإن كثيرًا من الناس يرزق ولده وغيره ويسترزق والملك يرزق الجند ويسترزق، فإذا كثر منه الرزق قل منه الطلب، لأن المسترزق ممن يكثر الرزق لا يسترزق من رزقه، فلم يكن ذلك المقصود يحصل له إلا بالمبالغة في وصف الرزق، فقال: {الرزاق} وأما ما يغني عن الاستعانة بالغير فدون ذلك: وذلك لأن القوي إذا كان في غاية القوة يعين الغير فإذا كان دون ذلك لا يعين غيره ولا يستعين به، وإذا كان دون ذلك يستعين استعانة ما وتتفاوت بعد ذلك، ولما قال: {وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} كفاه بيان نفس القوة فقال: {ذُو القوة} إفادة معنى القوة دون القوى لأن ذا لا يقال في الوصف اللازم البين فيقال في الآدمي ذو مال ومتمول وذو جمال وجميل وذو خلق حسن وخليق إلى غير ذلك مما لا يلزمه لزومًا بينًا، ولا يقال في الثلاثة ذات فردية ولا في الأربعة ذات زوجية، ولهذا لم يرد في الأوصاف الحقيقية التي ليست مأخوذة من الأفعال ولذا لم يسمع ذو الوجود وذو الحياة ولا ذو العلم ويقال في الإنسان ذو علم وذو حياة لأنها عرض فيه عارض لا لازم بين، وفي صفات الفعل يقال الله تعالى ذو الفضل كثيرًا وذو الخلق قليلًا لأن ذا كذا بمعنى صاحبه وربه والصحبة لا يفهم منها اللزوم فضلًا عن اللزوم البين، والذي يؤيد هذا هو أنه تعالى قال: